رجال في الظل .. ( قصة قصيرة )
صفحة 1 من اصل 1
رجال في الظل .. ( قصة قصيرة )
عندما سمعت من وليد زميلي في السجن عن حكاية العذاب الطويلة في زنازين
الاحتلال ، كدت لا أصدق لولا ان رأيت في كل كلمة قالها قصة متكاملة الفصول
مدعمة بالتواريخ و الاماكن . كنت و انا استمع افكر و أتساءل : كيف
تمكن هذا الرجل الهادئ ان يحافظ على طيبته و رباطة جأشه بالرغم
من عشرين عاما في مواجهة الجلادين ، عشرين عاما من الموت البطئ
و افول الشباب . كيف تمكن هذا الرجل الفولاذي من استغلال الاعتقال
حتى اصبح طبيبا ، يتمتع بكل هذه الثقافة الجامعة التي يفتقدها الاخرون ،
الذين يتنفسون الحرية و يمتلكون كل مواد العلم و الثقافة . لكن الجواب أتاني
فورا قبل ان أسترسل في تساؤلاتي، و كأن وليد قرأ ما يدور في أفكاري :
- الشيخ حامد اكمل ثلاثون عاما . و ذاك الرجل ذو اللحية الكثة تجاوز
السبعين من العمر مضى على اعتقاله إثنان و ثلاثون عاما و لم يشفع له
مرض العضال ليتمتع ببقية ايامه بين ذويه . و اما ذاك الباسم
دائما الرجل المقعد فإنه اعتقل قبلي بأسابيع قليله . هناك يا اخي العشرات
ان لم اقل المئات ممن تجاوزوا عشرين عاما في سجون الاحتلال معظمهم
كبار سن و مرضى .
- هل تمت محاكمتهم كأسرى ؟ سألت الدكتور وليد .
- محاكم عسكرية بلا شهود و لا دلائل . تخيل ان ابو العبد محكوم بثلاثة مؤبدات .
ابو سالم و هو مريض بفشل كلوي محكوم 150 عاما . المهندس نمر محكوم 75 عاما
و مؤبدان . أحكام غريبه من عدو لا مثيل له في التاريخ !
- ما هي التهم الموجهة اليهم ؟
- مقاومة الاحتلال . لكن هل تصدق ان البعض مضى على سجنه عشر سنين
اعتقال اداري بلا احكام ؟!
- و ماذا عن الزيارات ؟ سألت و انا مندهش مما سمعت .
- هذه يتحكم بها الجلاد . احيانا يمنعون زيارات العائلات لاولادهم لسنوات،
و احيانا يمنعون كليا الزياره مثلما هو حال ابو البراء ، فهو في زنزانة
منفرده ممنوع من الزيارات ، و هو مريض بضغط الدم و السكري و امراض
اخرى و لا يسمح للمؤسسات الدوليه كالصليب الاحمر و المنظمات الحقوقيه
العالمية من الاطلاع على اوضاعهم .
- الله اكبر .. صرخت بأعلى صوتي . أين منظمات حقوق الانسان . أين
الدول العربيه . أين السلطة و كيف تفاوض و تجتمع و هذه الالاف من ابناء
الشعب في سجون الاحتلال ؟؟؟ إن هذه المسأله يجب ان توضع في مقدمة
المسائل ، و يجب ان نرفض التفاوض من اساسه ما دام هناك معتقلين .
- يا اخي الموضوع ليس معتقلين و مرضى و معذبين فقط ، بل هناك مئات
الاخوات و الاطفال خلف القضبان . يتعرضون لكل انواع التعسف و الوحشية
و التعذيب النفسي و الجسدي .
- يا الله .. يا الله . كدت اقع على الارض من هول ما سمعت ، و من فداحة
ما رأيت . لم اكن اعلم و انا في الخارج ان الامور الى هذا الحد . ربما ان الترف
و قلة الاعتناء بقضايا شعبي جعلتني اكتشف اشياء هي امام عيني و لم أكن اراها .
حمدت الله على مشاركتي في تلك المسيرة التي تسببت بإعتقالي لاعرف ماذا يجري هنا .
اي ظلم يلحق بإنسانية الانسان في بلادي . أي شكل من الاحتلال هو الذي يجثم
على ارض فلسطين . أي عالم نعيش فيه ، هل هو عالم حقيقي ام غابة من الوحوش !
- تركني الدكتور وليد لينظر في حال احد المعتقلين الذي كان يتألم من قرحة المعده .
- مرحبا يا عم . جلست بلا استئذان بقرب رجل تجاوز السبعين من العمر .
كانت امارات الرجولة على جبهته و في عينيه الغائرتين . تخيلت نفسي و انا انظر
الى وجهه السمح الجميل امام جدي اسماعيل رحمه الله الذي قاد فصيلا من فصائل المقاومة
ايام ثورة القسام عام 36 ، و الذي استشهد في طبعون عام 48 . تخيلت انه جدي ، رفعت يده
الرقيقة التي غطى عظمها طبقة طرية من الجلد حتى بدت بلا لحم لضعفها ،
رفعتها الى فمي و قبلتها مرتان و رفعتها الى جبهتي احتراما و تقديرا .
- مرحبا يا بني . رد و لامس رأسي بحنو و عطف . ماذا جاء بك الى هنا ؟
- انا سعيد يا عماه ان التقي بكم ، و الله اني غير نادم رغم فراق الاحبة .
- لكن يا بني نحن في قبضة عدو لا يعرف الله . و لا يعرف للانسانية طريق .
لقد عملوا تجارب في جسدي ، اعطوني ادوية جعلت اطرافي تتآكل . كما ترى
يقطعون في جسمي رويدا رويدا نتيجة ادويتهم القاتله . لقد جربو ادويه مع غيري
من السجناء فخلفوا لديهم امراضا خبيثة . اوصيك اذا شعرت بوعكة أو اوجاع تستطيع
تحملها ان لا تذهب اليهم حتى لا يجربوا بك مبتكراتهم الجديده من القتل البطئ .
- كل هذا يحصل هنا ؟ قلت مستغربا .
- و أكثر يا بني ، انهم يسرقون الاعضاء من بعضنا . انهم ينهبون الحياة
بعدما نهبوا الارض . كن حذرا فرج الله عنك .
كنت ارى الدموع في عينيه ، رغم ظلام السجن ، تمنيت لو استطع
ان افتديه بنفسي . لكن كلانا في مكان لا يفتدي واحدنا به الآخر .
تمددت على فرشتي الرثة التي تقصر عن طولي الى الربع . و اخذت افكر
بحال القصص القليلة التي سمعتها في اليوم الاول من نزولي في هذا المكان
الخفي عن أعين الناس حيث تهدر به كرامة الانسان و ينال من انسانيته .
قررت ان اعرف قصص جديده عن المآسي التي يعاني منها الانسان الفلسطيني
هنا في المعتقلات التي لا تعرف للانسان حق و لا قيمة .
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى